
بقلم: يوسف الحرشاوي
مختص في تطوير الأعمال والشراكات الإستراتيجية
في مشهد لا يختلف كثيرًا عن صفعة مدوية على وجه مجتمع مأزوم، جاء تسريب بيانات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ليكشف المستور، ويُسقط القناع عن واقع لطالما أخفيناه خلف خطابات الحداثة والتنمية. لم تعد المسألة اليوم تتعلق بالخصوصية أو بحماية المعطيات فقط؛ لقد تجاوزنا ذلك إلى أزمة أخلاقية تمس جوهر التعاقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، وبين العمل وكرامة الإنسان.
لقد قدّمت هذه “الفضيحة” مرآة مكسورة عكست الصورة الحقيقية لاقتصاد يتغذى على الغموض، ونظام اجتماعي قائم على التفاوتات البنيوية، والنفاق المؤسساتي. إنها لحظة الحقيقة.
مجتمع بسرعتين…
ما كُشف ليس جديدًا على من يعيش في هذا البلد، لكنه جديد في فجاجته الرقمية. الأرقام لا تجامل ولا تتستر. آلاف العمال، يُصرح بهم بالحد الأدنى للأجور أو بساعات عمل مقلصة، رغم أنهم يعملون بدوام كامل وربما بأكثر من طاقاتهم. في المقابل، نرى مدراء و”خبراء” يُصرح بأجورهم بشكل متحايل، لا لشيء سوى للتهرب من أداء المستحقات الاجتماعية والضريبية، أو لرفع هوامش الربح.
أما الشركات “المحترمة”، التي تتصدر المنتديات وتُطبل لمفاهيم مثل التنمية المستدامة والمسؤولية الاجتماعية، فبعضها متورط حتى النخاع في استغلال هذا النظام المغشوش. الكل كان يعرف، لكن لم يجرؤ أحد على البوح.
لماذا نرتبك الآن؟
لأن الأرقام كشفت أن من نظنهم ميسورين، يعانون أيضًا، وأن من كنا نعتقد أنهم القدوة، هم جزء من المشكلة. اكتشفنا أن “الجدارة” ليست دائمًا حقيقية، بل هي أحيانًا واجهة تخفي خلفها المحسوبية، والزبونية، واحتكار الفرص.
الارتباك لا يأتي من المفاجأة، بل من الانكشاف. نحن نعلم، لكننا لم نكن نريد أن نرى.
فماذا بعد؟
لدينا الآن ثلاث خيارات واضحة: أولها الاستمرار في التظاهر، وإلقاء المحاضرات عن العدالة الاجتماعية والتقدم، بينما نغرق في نظام متآكل من الداخل.
وثانيها توجيه اللوم للمسرّب، وملاحقته، عوض النظر إلى المعلومات التي كشفها والخلل الذي نبه إليه.
ثم ثالثا اغتنام الفرصة، والتعامل مع هذه الفضيحة كمنبّه أخير لإعادة ترتيب البيت الداخلي، نحو نظام أكثر عدلاً وشفافية.
من الشفافية إلى المسؤولية
لا أحد يطالب بنشر الرواتب على جدران المؤسسات، لكن من غير المقبول أن تظل سلالم الأجور سرًا محاطًا بالغموض. نحن بحاجة إلى وضوح في نظام الأجور حسب المهام والمستويات. واحترام التصريح بالأجور الحقيقية لدى صندوق الضمان الاجتماعي. ثم تقليص الفوارق الشاسعة، غير المبررة لا بالإنتاجية ولا بالقيمة المضافة.
خاتمة مُـرَّة… لكنها ضرورية
لا يمكن لهذا البلد أن يتقدم واقتصاده الحقيقي يختبئ تحت عباءة الحداثة الزائفة. لا يمكن أن نحتفل بالتحول الرقمي، بينما نُعوض عمالنا كما لو كنا في الثمانينات.
تسريب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ليس نهاية العالم. إنه بداية الوعي. لكن السؤال الجوهري يظل: هل نمتلك الشجاعة لننظر في المرآة؟