
شهدت الدورة الحادية عشرة من “منتدى الدار البيضاء للتأمين” الإعلان عن سلسلة من المشاريع الإصلاحية الطموحة التي تؤشر على تحوّل رقمي عميق يشهده القطاع بالمغرب. ففي مقدمة هذه الإجراءات، كشف محمد حسن بنصالح، رئيس الفيدرالية المغربية للتأمين، عن مشروعين رئيسيين سيدخلان حيز التنفيذ خلال النصف الثاني من السنة الجارية ويتعلق الأمر برقمنة شهادة التأمين على السيارات، وإطلاق منصة أداء متعددة القنوات، في خطوة تهدف إلى تبسيط المساطر وتعزيز تجربة المؤمن له.
إلى جانب هذا التحديث الرقمي، أعلن المسؤول ذاته عن قرب مراجعة جدول التعويضات في التأمين على السيارات، والذي لم يطرأ عليه أي تغيير منذ سنة 1984. ووفقًا له، فإن هذا التحيين المرتقب سيكون له أثر ملحوظ على مستويات الأسعار، كما سيمكن من اعتماد تسعيرة أكثر عدالة ترتكز على خصائص كل زبون.
نمو قوي في 2024 مدفوع بالتأمين على الحياة والسيارات
سجل قطاع التأمين نموًا متينًا خلال سنة 2024، حيث بلغ إجمالي الأقساط 59,7 مليار درهم، بزيادة 5,3% مقارنة بالسنة السابقة (باستثناء المعيدين الحصريين). ويعزى هذا الأداء بالأساس إلى الدينامية القوية التي عرفها فرع التأمين على الحياة، مدفوعًا بالادخار المرتبط بوحدات الحساب، وإلى الاستمرارية في نمو التأمين على السيارات الذي يُعد العمود الفقري لفرع التأمينات غير المرتبطة بالحياة.
نحو تعميم التغطية الصحية الأساسية… ودور تكميلي للقطاع الخاص
ضمن الورشات الكبرى المطروحة، يبرز ملف انتقال المؤمنين في قطاع الصحة إلى النظام الشامل للتغطية الصحية الأساسية، مما يعزز موقع شركات التأمين الخاصة بصفتها جهات فاعلة تكميليًا لهذا النظام. وصرح محمد حسن بنصالح، رئيس الاتحاد، أن هذا الورش يتطلب تعزيز التعاون مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لضمان انتقال سلس، وتيسير الإجراءات أمام المؤمنين.
لكن هذه الخطوة تُثير في المقابل مخاوف مشروعة في صفوف الوسط المهني، بالنظر إلى ما قد يترتب عنها من تحويل جماعي للزبناء من القطاع الخاص إلى الصندوق الوطني، مما يُهدد بنية النموذج الاقتصادي للعديد من شركات الوساطة والتأمين. وتُقدّر الخسائر المرتقبة بنحو 4 مليارات درهم من الأقساط التأمينية، دون إغفال ما سينجم عنها من تأثيرات على مناصب الشغل المرتبطة بالتأمين الصحي.
الذكاء الاصطناعي يعيد رسم معالم الصناعة
في كلمته خلال المنتدى، شدد محمد حسن بنصالح على ضرورة إجراء تفكير عميق حول تداعيات التكنولوجيا الحديثة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، على مستقبل القطاع. وأوضح أن الذكاء الاصطناعي بات يؤثر على مختلف حلقات سلسلة القيمة، من الاكتتاب إلى تدبير التعويضات، ومن العلاقة مع الزبون إلى رصد الاحتيال.
وأبرز رئيس الاتحاد أن الاستفادة من هذه الثورة التقنية تتطلب إطارًا تنظيميًا صارمًا وأخلاقيًا، يواكب التطورات ويحمي المؤمنين ويحفز الابتكار في آن واحد. كما نبه إلى خطر تضارب الذكاء الاصطناعي مع مبدأ التضامن الذي يشكل جوهر التأمين، داعيًا إلى ضمان أن تبقى التكنولوجيا في خدمة الشمول والعدالة، لا عاملًا للإقصاء.
مقاربة شاملة لمواكبة التحول الرقمي
في ذات السياق، دعا المتحدث إلى توسيع قنوات التوزيع من خلال اعتماد نهج متعدد القنوات مدعوم بالرقمنة والذكاء الاصطناعي، ما من شأنه أن يُسهّل الوصول إلى شرائح سكانية ظلت سابقًا غير مؤمنة أو محرومة من عروض ملائمة.
وأكد على أهمية دعم بروز منظومة تكنولوجية حيوية، قادرة على احتضان شركات ناشئة في مجالات Insurtech وDeep Tech، وخلق بيئة محفزة على الاستثمار والتعاون. وفي هذا الإطار، دعا إلى مواكبة هذه الفاعلين الجدد بتشريعات مناسبة وتمويلات ملائمة.
الأمن السيبراني: التحدي الجديد
سلط بنصالح الضوء على تصاعد مخاطر الهجمات الإلكترونية، داعيًا إلى تطوير آليات فعالة لتقييم هذه الأخطار وتأمينها بشكل مستدام. كما طالب شركات إعادة التأمين الكبرى بالانخراط الفعلي في بناء ثقافة وطنية للمناعة السيبرانية.
الحكومة تؤكد دعمها للتحول الرقمي في التأمين
من جانبها، أشادت نادية فتاح العلوي، وزيرة الاقتصاد والمالية، بالدور المحوري الذي تضطلع به التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في تحول قطاع التأمين، وعمومًا في الدفع بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب وإفريقيا. وأكدت أن المملكة انخرطت بجدية في هذه الدينامية عبر ملاءمة الإطار القانوني، وتعزيز البنية التحتية (منها مراكز بيانات بمعايير دولية)، وتشجيع الاستعمال الأخلاقي والمسؤول للتكنولوجيا.
وقد بدأت هذه الاستراتيجية تؤتي ثمارها، من بينها تجاوز عدد عقود التأمينات الصغرى 2,3 مليون عقد سنة 2024، ما يبرز التقدم في توسيع قاعدة المؤمنين. كما نوهت الوزيرة بقدرة القطاع على الصمود أمام الأزمات الصحية والاقتصادية والمناخية المتتالية، مشددة على ضرورة مواصلة الابتكار والتجديد.
“أكابس” تدعو لتسريع التأقلم مع المتغيرات
في كلمة ألقاها عثمان خليل العلمي، الكاتب العام لهيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي (ACAPS)، نيابة عن رئيسها عبد الرحيم الشافعي، تم التطرق إلى عمق التغيرات التي تحدثها التكنولوجيا الحديثة، سيما الذكاء الاصطناعي، في سلسلة قيمة التأمين، من الاكتتاب إلى التعويض، مرورًا بتدبير المخاطر وتجربة الزبون.
وأكدت الهيئة الرقابية أن هذا التحول يفرض على الفاعلين مراجعة نماذجهم بسرعة، والتوقع المستمر لانتظارات الزبناء، مع الحفاظ على التوازنات القانونية والأخلاقية، لاسيما في ما يخص حماية المعطيات والشفافية والأمن السيبراني.
وذكرت الهيئة أنها تلعب دور محفز التغيير، من خلال مواكبة مشاريع الرقمنة، وتطوير أدوات الحكامة، وإطلاق مبادرات كبرنامج “الانبثاق”، وإحداث خلية خاصة بـ”التكنولوجيا التأمينية”، إلى جانب توقيع اتفاقيات ثلاثية (منها اتفاقية مع وزارة العدل والفيدرالية المغربية للتأمين لتعزيز الرقمنة في القطاع القضائي والتأميني).
مؤشرات إيجابية… وتحديات مستمرة
رغم التحديات، أبان القطاع عن مؤشرات مالية إيجابية خلال سنة 2024: ارتفاع الأقساط بنسبة 5,2% لتصل إلى 59,6 مليار درهم، ونمو استثمارات القطاع إلى 246,2 مليار درهم (+5,2%)، مع تطور في الأرباح والرساميل الذاتية (+2,9% و+3% تواليًا).
لكن “هيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي” نبهت إلى أن هذه الدينامية لا يجب أن تُخفي التحديات المقبلة، وأهمها ضرورة بناء قطاع أكثر مرونة وشفافية، ومرتبط أكثر باحتياجات الزبناء. وهو ما يمر حتمًا عبر تسريع التحول الرقمي، وتعزيز الثقة، وضمان استدامة الخدمات.